لماذا تعجز الدكتاتوريات عن إنشاء أنظمة دولية؟

-في مدرسة الواقعية السياسية، تكون مصالح الحكومات ممكنة التحقيق دائما من خلال استخدام القوة، وخاصة القوة العسكرية، ويعتبر النظام العالمي ميدانا للمنافسة والصراع المستمر، المقترن بعنف الحكومات لتحقيق أكبر الفوائد. ولذلك، تم التأكيد في هذه المدرسة على “النظام الدولي”. لكن في المدرسة البنائية، لا يمكن تحقيق مصالح الحكومات من خلال استخدام القوة، بل من خلال التدفق الحر للمعلومات وإنشاء اتصالات واسعة النطاق مع العالم. ووفقا لهذه النظرية، فإن النظام العالمي هو ساحة للتفاعل والتعاون في مجال المعلومات والاتصالات واسعة النطاق من أجل المصالح المشتركة. ولذلك، في هذه المدرسة يتم التأكيد على “المجتمع الدولي”.

ومع هذه التفسيرات، في “النظام الدولي” الذي هو نتاج الواقعية السياسية؛ يُعتقد أن “الحالة الطبيعية” التي تحكم العالم نفسه هي نوع من الفوضى؛ ولذلك تحاول الحكومات والمنظمات والشركات المتعددة الجنسيات الحصول على أكبر قدر من القوة والثروة على أساس مبدأ المساعدة الذاتية. لكن في “المجتمع الدولي” الذي هو نتاج المدرسة البنائية؛ يُعتقد أنه بمساعدة “القانون الدولي” ينبغي للمرء أن يتجاوز الحالة الطبيعية من أجل تشكيل مؤسسات وأنظمة دولية مشتركة تقوم على القيم والأعراف والثقافات المتفق عليها. ولذلك فإن أهم دليل على وجود “المجتمع الدولي” هو “القانون الدولي” الذي ينبع من الفكر الليبرالي.

ويقول ألكسندر وندت، مفكر العلوم السياسية والعلاقات الدولية وأستاذ الأمن الدولي بجامعة ولاية أوهايو، باعتباره أحد منظري النظرية البنائية، بالتعبير عند شرح مبادئ هذه النظرية، بانه أولا، إن بنية المجتمعات البشرية غالبا ما تتكون من خلال الأفكار المشتركة والمعايير المشتركة. وليست القوى المادية؛ ثانيا، تتشكل هوية ومصالح الفاعلين في هذه المجتمعات على أساس الأفكار المشتركة وليس على الطبيعة. وبهذا يمكن القول إن أحد أسس تكوين “المجتمع الدولي” هو فكرة الليبرالية كقيمة ومعتقد مشترك بين الدول الأوروبية، والتي بعد الحروب والصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، توصلوا إلى معتقد مشترك مثل الليبرالية

صعود الفكر الليبرالي

بمعنى آخر، قبل إنشاء عصبة الأمم عام 1919 ثم الأمم المتحدة عام 1948 في منتصف القرن العشرين، كان العالم يشهد دائما النظام الدولي منذ ولادة الحضارات إلى القرن العشرين وصعود الفكر الليبرالي ولكن في القرن العشرين لأول مرة، مع دخول العصر الليبرالي وصياغة القانون الدولي الليبرالي، خرج العالم من النظام الدولي إلى المجتمع الدولي.

وفي الواقع، فإن تشكيل “المجتمع”، وهو شكل أكثر تقدما من “النظام”، لم يكن ممكنا دون الوصول إلى الليبرالية الاقتصادية ومن ثم الليبرالية السياسية. وفي وقت تغيرت العلاقات الدولية من “النظام” إلى “المجتمع” عندما استطاع أن يصوغ قوانين دولية ليبرالية مبنية على المثل الليبرالية المشتركة، وعلى أساس هذه القوانين استطاع أن يقيم المؤسسات ويخلق “المجتمع الآمن”. 

ان كارل دبليو دويتش، أحد رواد نظرية العلاقات الدولية والعلوم السياسية، في إطار نظرية الاتصالات، والتي بدلا من دور القوة في السياسة، يركز على دور التدفق الحر للمعلومات والاتصالات التي تؤثر على قرارات الحكومات، ويعتقد أن ما يقوي الحكومات ليس القوة العسكرية، بل القدرة على خلق التواصل والتدفق الحر للمعلومات، مما يؤدي إلى تكوين اتفاقيات واتحادات مستقرة بين الحكومات والدول ويضمن نجاح الحكومات.

ويرى أنه في ظل التواصل والتدفق الحر للمعلومات يمكن تمييز مجتمعين أمنيين ناجحين: الأول، المجتمعات الأمنية المندمجة، والثانية، المجتمعات الأمنية التعددية. والآن، إذا نظرنا إلى ظهور الاتحاد الأوروبي كمثال لمجتمع أمني تعددي، سنجد أن الدول الأعضاء في هذا المجتمع تعتمد على القيم الليبرالية المشتركة وأدوات القانون الدولي الليبرالي، وفي نفس الوقت التي تمتلك حكومات مختلفة، ومع الحفاظ على استقلالها وحكمها الذاتي، تمكنت من خلق مجتمع آمن، تعددي وقوي.

مجتمع أمني تعددي 

لكن تجدر الإشارة إلى أنه من أجل تشكيل “مجتمع أمني تعددي”، هناك ثلاثة شروط أساسية: الشرط الأول هو توافق القيم السياسية الأساسية والجوهرية للدول التي تشكل مثل هذا المجتمع الأمني ​​التعددي. على سبيل المثال، كان هناك نظامان سياسيان ديمقراطيان مثل فرنسا وبريطانيا، اللذان كانا في عصر ما قبل الليبرالية متورطين دائما في حروب دينية من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، بسبب سياسات متأثرة بالدين وبمرورهم بعصر التنوير والإنسانية والوصول إلى الليبرالية، حققوا مبادئ وقيم ديمقراطية ليبرالية مشتركة، مما أدى في إلى فهم مشترك للقانون الدولي.

 ولذلك، في النصف الثاني من القرن العشرين، تمكن هذان الطرفان من تشكيل مجتمع أمني تعددي على شكل المجموعة الأوروبية ومن ثم الاتحاد الأوروبي. ولكن تجدر الإشارة إلى أن النظام الديمقراطي والنظام الدكتاتوري لن يتمكنا أبدا من تحقيق هذا الهدف. ومن الأمثلة على ذلك روسيا والصين في عالم اليوم، اللتين لا تستطيعان المشاركة في “المجتمع الدولي”، لكنهما تتقدمان بسهولة بأهدافهما في “النظام الدولي”.

وبطبيعة الحال، تجدر الإشارة إلى أن التوافق الثقافي ووجود قيم ليبرالية مشتركة قد يكون شرطا ضروريا لتشكيل مجتمع أمني، لكنه لن يكون بالضرورة شرطا كافيا. ولذلك، فإن الشرط الضروري الثاني هو إنشاء شبكات اتصال سياسية وما شابه ذلك، حتى تتمكن الحكومات والقطاعات السياسية النشطة الأخرى في المجتمع من الاستجابة لرسائل واحتياجات وأعمال بعضها البعض بسرعة وبشكل مناسب وفعال دون اللجوء إلى العنف. 

وبناء على ذلك، على سبيل المثال، بعد عام 1945، غيرت فرنسا وألمانيا علاقاتهما من حالة الصراع الدائم إلى التحالف الوثيق. لأنه مع تغير النظام السياسي في ألمانيا من النازية إلى الديمقراطية، تمكنت ألمانيا من تحقيق تحالف وثيق مع فرنسا على أساس القانون الدولي. وبهذه الطريقة، كان أحد الأسباب التي أدت إلى وصول هذين البلدين إلى هذا الوضع هو إنشاء شبكات اتصال منتظمة على جميع المستويات، الحكومية وغير الحكومية، بين شعب وسلطات البلدين.

التنبؤ بالسلوك

أما الشرط الثالث فسيتم تحقيقه إلى حد كبير من خلال التفاعل الديناميكي للشرطين الأولين، وهو القدرة على التنبؤ المتبادل بالسلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكل شريك ومتعاون، وهو أمر ضروري لتشكيل مجتمع تعددي مثل الاتحاد الأوروبي. ربما يمكن ذكر الصين كدولة أدى فيها الافتقار إلى حرية تداول المعلومات إلى كارثة عالمية في مجال الصحة. لقد حدث وباء فيروس كورونا في عام 2019 نتيجة التكتم في هذا البلد وعدم إخطار منظمة الصحة العالمية في الوقت المناسب، الأمر الذي لم يتسبب في تفشي وباء فيروس كوفيد عالميا فحسب، بل أيضا ثقة “المجتمع الدولي” في الصين كشريك، لقد تدمرت بالكامل. 

أو أن احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 هو مثال آخر على عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الحكومات غير الليبرالية، والذي تم التشكيك من خلاله بكل تفاؤل الاتحاد الأوروبي بشأن دور التعاون الاقتصادي والتجاري مع روسيا في جعل سلوك الروس قابلا للتنبؤ وأخيرا، أثبت هجوم هذه الدولة على أراضي أوكرانيا في 24 فبراير 2022 لـ “المجتمع الدولي” أن التعاون الاقتصادي مع الصين وروسيا دون وجود قيم ومعتقدات مشتركة لن يؤدي فقط إلى إمكانية التنبؤ بسلوك هذين البلدين، بل سيؤدي إلى تعزيز الفكرة الدكتاتورية على حساب التعاون الاقتصادي والتجاري.

ولذلك تجدر الإشارة إلى أن القدرة على التنبؤ لن تتحقق إلا من خلال التجانس الثقافي والقيمي الاجتماعي والسياسي، كما أن الوعي والتفاهم المشترك يتحقق من خلال الثقافات السياسية المتشابهة. وبهذه الطريقة، ونظرا لتشابه الدول في المثل والقيم المشتركة، فإنها ستكون قادرة على التوصل إلى تفاهم مشترك مع الحكومات الأخرى من خلال القيم والمعتقدات المشتركة. ولهذا السبب، من الضروري زيادة القدرة على التنبؤ المتبادل بالسلوك السياسي للحكومات من خلال توفير شبكات الاتصال والمعلومات الواسعة. ولعل من الممكن أن نذكر منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي كمثالين ناجحين على هذا السلوك المتوقع من الحلفاء والشركاء.

بناء المؤسسات

ولذلك فإن أي مجتمع يستطيع أن يمنع تناقضاته الداخلية ويجد الحلول المناسبة لحل خلافاته، استنادا إلى القانون الدولي الليبرالي، سيكون قادرا على التحرك نحو بناء المؤسسات وإنشاء أنظمة دولية ناجحة ويجعل نفسه قويا وإذا ما تمكن من التغلب على التحديات، فسوف يصبح تدريجيا غير قادر على بناء المؤسسات وإنشاء نظام دولي جديد، وسوف تنهار مؤسساتها مثل حلف وارسو في الاتحاد السوفييتي.

ونتيجة لذلك، فإن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي مجتمعان لديهما دوافع ذاتية ويعالجان ذاتيا، وقد أدى ذلك، بسبب القيم والمثل الليبرالية المشتركة، والتواصل الواسع النطاق بين الأعضاء والتدفق الحر للمعلومات بين هذه الحكومات، إلى القدرة على التنبؤ بسلوك كل عضو، وهو ما يؤدي في إلى الإجماع واتخاذ القرارات الكبيرة المشتركة.

 لكن منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون بقيادة الصين، وجامعة الدول العربية، وحركة عدم الانحياز، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الاقتصادي، بسبب عدم الاتفاق على مبادئ مشتركة والقيم، والنزعة الذاتية للأعضاء، وعضوية الحكومات ذات الأنظمة السياسية المختلفة ذات القيم والأهداف غير المتسقة والمتضاربة، وعدم الإيمان بالتوافق وتفضيل التعاون الثنائي على التعاون الجماعي المشترك، وعدم قبول الحقوق الليبرالية الدولية كنظام. وقد أدى الاتفاق المشترك إلى خلق أزمات وتحديات لم يتم حلها داخل هذه المؤسسات والمنظمات إلى درجة أن أعضاء هذه المؤسسات ليسوا سوى “مجتمع” من الناحية الشكلية، لكنهم يفتقرون إلى وظائف المجتمع الأمني ​​التعددي من حيث من المحتوى. 

المصدر: موقع ديبلماسي ايراني

————————

المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *