
-تعتبر الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا أكبر أزمة جيوسياسية تشهدها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إنها الحرب التي هددت وجود أوكرانيا، وجعلت روسيا تعاني من مشاكل عدة كما تحدت إرادة الغرب. وعلى الرغم من سيطرة روسيا على أجزاء كبيرة من أوكرانيا والصراع الذي طال أمده، فإنه ليس من الواضح من الذي ينتصر في المعركة.
جذور الحرب الأوكرانية
هذا الصراع هو نتيجة لاختلال توازن القوى في النظام الدولي. العاملان الرئيسيان اللذان يقودان هذه الأزمة هما:
- توسع الناتو شرقا
- محاولة روسيا استعادة نفوذها في الجمهوريات السوفييتية السابقة
في عام 2008، حذرت روسيا من توسع حلف شمال الأطلسي باتجاه حدودها. ويعد جون ميرشايمر، أحد أبرز منظري العلوم السياسية، ان توسع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق “خطأ استراتيجيا” أجبر روسيا على الرد بقوة. وفي نفس العام، عارضت أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي عضوية أوكرانيا (وجورجيا) في الناتو بسبب استفزاز روسيا. ومن ناحية أخرى، يعتبر فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، أن هدفه هو استعادة نفوذ روسيا التاريخي، ويعتبر أوكرانيا جزءا من روسيا الكبرى.
كما يحدد أسباب بدء الحرب أهداف روسيا الإستراتيجية في الحرب في أوكرانيا في الأسباب التالية: 1- عدم عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (إبقاء أوكرانيا كمنطقة عازلة مع الناتو) 2- الاستيلاء على أراضي أوكرانيا وخاصة الناطقة بالروسية في مقاطعات أوكرانيا؛
الوضع الحالي لساحة المعركة
احتلت روسيا 17.5% من أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم وأجزاء من مقاطعات لوهانسك ودونيتسك وزابوريزهيا وخيرسون. ولم يتغير خط المواجهة بشكل كبير منذ نهاية عام 2023، فروسيا في موقف هجومي، بينما أوكرانيا في موقف دفاعي.
تتعرض البنية التحتية في أوكرانيا للهجوم بشكل مستمر. ومن ناحية أخرى، دمرت أوكرانيا المعدات المدرعة والعسكرية الروسية، كما يواجه الطرفان، وخاصة روسيا، نقصا في القوى البشرية والعتاد، وقد سعت إلى تعويض هذا النقص من دول مثل كوريا الشمالية وغيرها.
رد الفعل الغربي
يعتقد البعض أن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، هو السبب الرئيس للتوتر في أوكرانيا، لأنه في عام 2014 قاموا بتغيير الحكومة الموالية لروسيا بثورة ملونة وتسببوا في في ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا ومن ثم حاولوا النفوذ في البنية الاقتصادية والسياسية لأوكرانيا.
بعد بدء الحرب عام 2022، قدموا دعما ماليا وعسكريا واسعا لأوكرانيا، ووصل إجماليه إلى أكثر من 200 مليار دولار. ورغم أن هذه المساعدات أدت إلى نجاح عسكري لأوكرانيا في نهاية عام 2022 وبداية عام 2023، إلا أنه يبدو أن أوكرانيا بعد ذلك تواجه مفارقة استراتيجية.
أوكرانيا والمفارقة الاستراتيجية
الحرب بين أوكرانيا وروسيا هي حرب غير متكافئة. وروسيا قوة نووية وتتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. ومن أجل تحقيق الانتصار، تحتاج أوكرانيا إلى الرد بالمثل ومهاجمة الأراضي الروسية، لكن روسيا هددت مرارا وتكرارا باستخدام الأسلحة النووية في حالة وجود تهديد إقليمي. وهو الأمر الذي يتجنبه الغرب وحلف شمال الأطلسي بشدة.
والمسألة الأخرى هي انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وهذا يعني دخول الناتو في حرب مباشرة مع روسيا. من أجل ضمان أمنها، تطلب كييف العضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولكن على النقيض من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنها تعتبر أن وضعها الحربي يشكل عائقا أمام قبولها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو تناقض آخر، لأنه في الأساس، إذا تمكنت من تحقيق الانتصار في الحرب، فهناك ليست هناك حاجة تذكر لعضوية حلف شمال الأطلسي.
برنامج زيلينسكي المكون من خمس نقاط
في 17 أكتوبر 2024، قدم الرئيس الأوكراني زيلينسكي خطة النصر المكونة من خمس نقاط إلى البرلمان. وتضمن هذا البرنامج الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ومساعدة أوكرانيا على غزو الأراضي الروسية، والمزيد من الدعم بالأسلحة بما في ذلك مقاتلات اف 16والصواريخ بعيدة المدى، والدعم الاقتصادي من خلال الاتحاد الأوروبي، ووجود القوات الأمريكية في أوكرانيا. إلا أن هذه الخطة لا تبدو واقعية؛ لأن الغرب لا يريد الدخول في صراع أعمق. ويشير لورانس فريدمان، وهو محلل كبير، إلى أن الزعماء الغربيين يتصرفون بحذر، ويسعون إلى دعم أوكرانيا من دون استفزاز ورد فعل قد يؤدي إلى صراع أكبر.
تحديات أوكرانيا
وتعتمد كييف بشكل كبير على المساعدات الغربية. لكن تهديد روسيا باستخدام الأسلحة النووية أثر بشكل خطير على استراتيجية الغرب. وقد منع هذا التهديد الغرب من توفير الأسلحة الهجومية مثل الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المقاتلة، على الرغم من الوعود التي قدمها لزيلينسكي، لأنه لا يريد دفع روسيا إلى نقطة اللاعودة.
وفي أمريكا، وعد ترامب بوقف الحرب إذا فاز في الانتخابات. وتتضمن خطة ترامب القبول بالمناطق التي احتلتها موسكو وعدم قبول عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، يتجاهل ترامب حلف شمال الأطلسي بشكل أساسي. وتفضل موسكو هذه التوجهات بقوة إلى حد أن الرئيس الروسي السابق ميدفيديف أشار إلى أن ترامب، إذا تم انتخابه، سيتم اغتياله مثل كينيدي من خلال محاولته صنع السلام مع روسيا. ومن الواضح أن خطة ترامب تلبي أهداف موسكو الاستراتيجية.
بالإضافة إلى ترامب، يعارض بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي مثل راند باول وبيرني ساندرز مساعدة أوكرانيا، بل ويتهمون حكومة زيلينسكي بالفساد وسوء الإدارة. وفي أوروبا، يميل اليمين المتطرف في فرنسا وبعض الأحزاب الألمانية إلى أن يكون أقرب إلى روسيا.
وبالإضافة إلى ذلك، كان للحرب الإسرائيلية الفلسطينية تأثير سلبي كبير على أوكرانيا. فأولا، تحول تركيز السياسة الخارجية الأميركية والغربية من أوكرانيا إلى إسرائيل، وتضاءلت القدرة على توفير الأسلحة لأوكرانيا، كما انخفض الاهتمام الدولي بالأزمة الأوكرانية.
في بداية الحرب، ظهر زيلينسكي كفارس شعبي بين وسائل الإعلام والقادة الغربيين بأسلوب عسكري عندما حضر قمة مجموعة السبع، لكن الحقيقة هي أن زيلينسكي لم يعد يحظى بشعبية كبيرة كما كان في السابق. بالنسبة للغرب، فهو يظل طفلا مشاغبا ويتطلب المزيد من الاهتمام باستمرار. وبدون هذا الاهتمام لن يكون هناك تغيير في ساحة المعركة.
ما يريده الغرب من كييف الآن هو مواصلة الحرب مع موسكو من أجل إضعاف روسيا دون احتمال النصر، وهو مطلب غير معقول. وان العضوية في حلف شمال الأطلسي تخضع أيضا لانتهاء الحرب.
الإنجازات على أرض الواقع والمقاومة الاقتصادية لروسيا
وعلى الرغم من الخسائر الفادحة، تمكنت روسيا من السيطرة على حوالي 20% من أوكرانيا، بما في ذلك المناطق الرئيسية في الشرق والجنوب، مما أعطى موسكو ميزة استراتيجية. ومن الناحية الاقتصادية، فمن خلال تعزيز العلاقات التجارية مع دول مثل الصين وإيران والهند، تمكنت روسيا من تجنب آثار العقوبات الغربية إلى حد كبير، حتى أنها وافقت على ميزانية حرب بقيمة 95 مليار دولار لعام 2025. لقد دفعت قمة بريكس الأخيرة روسيا إلى إظهار مناوراتها الدبلوماسية وافتقارها إلى العزلة السياسية والاقتصادية، وهو أمر غير مرغوب فيه بالنسبة للغرب. ويبدو أن القوى غير الغربية مثل الصين والهند وغيرها تنظر إلى قضية أوكرانيا باعتبارها قضية منتهية.
وكانت جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل وجرائم حقوق الإنسان في غزة ولبنان سببا في جعل الدعاية الغربية لحقوق الإنسان ضد روسيا غير فعّالة، كما تم توفير متنفس لروسيا. وبسبب أزمة الشرق الأوسط، أصبح لدى روسيا الآن المزيد من الخيارات للعب في النظام الدولي.
ويبدو أنه رغم كل الضغوط، فإن روسيا قادرة على الصمود في الوضع الحالي. ومع استمرار الصراع، فرضت روسيا سيطرتها على الأراضي الأوكرانية، ويبدو من المستحيل تقريبا استعادة هذه المناطق دون التدخل المباشر لحلف شمال الأطلسي. إن سيطرة روسيا الإقليمية والقيود الغربية جعلت من هذا البلد الفائز الفعلي في حرب أوكرانيا. ويعتقد المحللون أن السيطرة الإقليمية لروسيا قد تصبح وضعا طبيعيا مع مرور الوقت.
السيناريوهات القادمة
تشير الدلائل إلى أن الحرب في أوكرانيا تدخل مرحلة جديدة فيها.
- تسيطر روسيا على جزء كبير من أراضي أوكرانيا؛
- لقد واجه الدعم الغربي تحديات خطيرة؛
- تزايدت احتمالات تغير موقف الغرب من المفاوضات مع روسيا؛
- لن تنضم أوكرانيا بعد إلى حلف شمال الأطلسي؛
لقد تحققت الأهداف الاستراتيجية لروسيا حتى الآن، لذا ما لم يغير الغرب نهجه الحذر، فإن روسيا تصبح في وضع يسمح لها بادعاء النصر؛ وحتى لو لم يكن هذا النصر مجرد نصر عسكري كامل، بل إنجاز جيوسياسي. وكما يشير لورانس فريدمان، فإن الحروب لا تنتهي دائما بمعاهدات سلام رسمية؛ وفي بعض الأحيان تنتهي دون اتفاق رسمي ويتم قبول نتائجها الجيوسياسية مع مرور الوقت.
ولذلك، إذا لم يحدث تغيير جدي في موقف الغرب تجاه أوكرانيا، فهذا يعني أن أوكرانيا ستبقى خارج الناتو ولن تشمل المساعدات الغربية أسلحة بعيدة المدى، حتى بدون أي اتفاق، ربما مثل ضم شبه جزيرة القرم، وبعد فترة بسبب التوتر السياسي بين روسيا والغرب، يتعين على الغرب وأوكرانيا قبول الوضع القائم، على الرغم من أنه سيكون من الصعب للغاية على الأوكرانيين قبول هذه القضية.
المصدر: مركز مطالعات سياسي وبين المللي
————————
المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–
التعليقات