أبو الفضل فاتح: على الحكومة الإيرانية أن تترك الإعلام لأهله

وفيما يلي ترجمة المقال.

أولًا؛
الإعلام قضية بلدنا التي ما تزل تبحث عن حل منذ قرنين. ومثلما هو الحال بالنسبة للحرية، فإن عدم حسم هذه القضية يعني غياب الحلول لكثير من القضايا الإنسانية، والقانونية، والتنموية الأخرى.

باسم الحرية اندلعت الثورة ونجحت، لكن فكرة «التقييد والاحتواء» باتت هي المسيطرة على كثير من الساحات السياسية، والاجتماعية، حتى الاقتصادية، والإعلام إحدى هذه الساحات.

ثانيًا؛

حتى إذا أعطينا الأصالة لـ «التقييد والاحتواء والكبح»، من لا يدرك اليوم إن مفهوم السلطة تعرض لتغييرات جذرية في ظل تطورات تقانة المعلومات والاتصالات، حتى إن حضور قادة الدول في الشبكات الاجتماعية خاضع لما تقرره الشبكات هذه من نظام قوانين خاص بها، ولم يعد هؤلاء القادة يتحكمون بمقدرات العالم.

مدهش كيف باتت الدول-الأمم الافتراضية ترى النور بنطاق جغرافي يتجاوز الجغرافيا الحالية للقوى التقليدية.

إنها ليست مسألة خضوع أعمى لكل ما في «العالم الجديد» أو قَبُول أي ثقافة تحت طائلة التقانة، وإنما هي مقاربة الاختيار بوعي وفاعلية.

لقد أصبحنا في عالم يمثل فيه الإنترنت «حياة ثانية» للناس، وفضلًا عن «ميتافيرس» المذهل، أحدث استخدام الذكاء الاصطناعي تغييرات هائلة.

وليعلم من لا يعلم أن الإخفاق في فهم عالم الاتصال الجديد، والاعتماد على أساليب الاحتواء والتحكم دون غيرها، سوف لا يسهم في إجهاض هذه الأساليب فقط، بل سيحدث شرخًا أكبر بين ما يعيشه الناس من «عالم حقيقي وافتراضي» وعالم «السياسات الرسمية»، وسيؤدي إلى مزيد من التخلف والتحديات التي تفوق الخيال.

ثالثًا؛

لم تكن العقوبات حميدة العواقب على بلدنا، بل تسببت في كثير من المشكلات، ولا بد من حل لها.

لكن ما تشهده إيران من أزمات متعددة وتخلف عن ركب العالم لا علاقة له بالعقوبات، وإنما استبدال «الاحتواء» بالعقلانية والابتكار والتدبير.

إن التمتع بانتخابات متوازنة، وتحكم الناس بمصيرهم، وحماية حرياتهم وحقوقهم وكرامتهم، والميريتوقراطية، والنزاهة والقضاء على الفساد، والتوزيع العادل للسلطة ومنها المنابر الإعلامية والنهوض بالمرجعية الإعلامية، تتطلب كلها العقلانية، والحكمة، وهي في يد السلطة.

يبدو جليًا إن فهمنا للإعلام وتدابيرنا في هذا الميدان هزيلة. وبعيدًا عن تحديات الفضاء السيبراني، فإننا خسرنا المنافسة الإعلامية إقليميًا وعالميًا على مستوى المرجعية الإعلامية بالرغم من قدرتنا على الريادة فيها.

أحد أهم أسباب هذا الوضع ليس إلا غياب الرؤية الاستراتيجية.

على سبيل المثال، أصبحت وسائل الإعلام الحكومية أشبه إلى كشكول مرقع يصعب البحث فيه عن صورة أو نمط ذي معنى.

فلا يمكن التغلب على الفوضى والتشوش بالفوضى نفسها، كذلك لا يمكن تحقيق التماسك والقوة الناعمة بالإعلام الضعيف.

فالإعلام الحقيقي بكل ما للكلمة من معنى، بإمكانه تنظيم عقلية المجتمع والدولة، ويجسد جانبًا من فطانة الأمة.

رابعًا؛

إلى جانب ضرورة تطوير البِنَى التحية والتعليم، هناك نقطة أخرى تتمثل في وبيل ارتداد هرم الموارد البشرية.

فبينما نستنفع من الموارد البشرية البارعة والماهرة في مستوى أساتذة الجامعات، والصحفيين، والمحررين، ورؤساء التحرير، نعاني مع الأسف -أكثر من أي شيء آخر- من فقر القوى الحكيمة والمبدعة والشجاعة على أعلى مستويات إدارة البلد.

يكفي إلقاء نظرة على وسائل الإعلام الضخمة والحكومية. لا أقول كلهم، لكن ما أكثر المديرين الذين يعيشون في عالم آخر منفصل عن الواقع والحقيقة، وبينما لم ينجزوا شيئًا يذكر، استنزفوا ما كان يتوفر من إمكانات قليلة، لدرجة أصبحنا اليوم متخلفين عمّا كان عليه قبل عشرين عامًا في التطور الإعلامي، وأذبلنا وأضنينا كثيرًا من الطاقات الشبابية، بل أوقفنا حتى وسائل إعلام غير حكومية عن الحركة والتطور بفعل ضيق آفاقنا.

منذ سنوات نصيح ونعلن أن الإعلام أحد مكوّنات قدرات البلد.

لا يُعقل أن نقول بأن مدى الإعلام يتجاوز مدى الصواريخ لكن نكره تطور وسائل الإعلام ونستنكف عن تسليم المسؤوليات الإعلامية العليا إلى المديرين من أصحاب الكفاءة والخبرة.

فهذه المناصب استحقاق للكفاءات الوطنية العبقرية من أصحاب الفكر والرأي لا لكل من هب ودب باحثًا عن الكرسي والمنصب.

كيف يمكن أن نتحدث عن مجتمع متعدد الأقطاب لكن نعيّن مديرين أحاديي البعد؟

كيف يمكن الاعتقاد بأن الإعلام محرّك التنمية وعين المجتمع اليقظة، لكن نختزله إلى مستوى المؤسسات التجارية أو شركة إنشاءات لصناعة العناوين حسب الطلب، أو جعله بوقًا إعلانيًا لهذا وذاك فنعهده إلى المتواطئين والمنظفين ومن يبحث عن الكراسي؟

هذا الصنف من المديرين لن يسمح أبدًا بظهور وسائل إعلام حقيقية تتحول إلى منصة لاستقبال وارتكاس المصلحة العامة للنخب والحكومة والشعب، وإنما يحول الإعلام إلى ضده ومَشغلًا لإهدار الورق، والمال، والوقت، والدوافع.

خامسًا؛

تذوب الفرص مثلما تذوب الثلوج في شمس تموز، وتتشابك شبكة الإعلام وتتعقد أكثر من قبل.

وفي ظل هذا التشابك، تتصدر قناة الجزيرة، وسائل إعلام المنطقة التي تمثل إيران مركز أخبارها، لكن الرواية الخبرية الأولى للمنطقة لا تنقلها الوسائل الاعلامیة الإيرانية الغائبة عن المشهد أصلًا.

لقد حان أوان تطور إعلامي لافت ووضع خطط جديدة تمامًا.

وبينما ما نزال نخوض معركة إصلاح مفهوم الإعلام وقبل الإجماع عليه، يجب في الأقل تحقيق تدفق للمعلومات والشفافية والثقة عبر إعلام مرن الأعطاف وعبر تعيين سليم، وعبر حضور فاعل وحر داخليًا وعالميًا.

يجب الاعتراف بأننا نعاني من رهاب الإعلام ومعاداته أحيانًا. لابد من وضع ثقتنا بالجيل الشاب ونمنحه فرصة لاستعراض مواهبه وقدراته.

فالشباب بإمكانهم فتح ساحات جديدة والتألق في الساحة الإعلامية. فعقلية التحكم والاحتواء تميت الإبداع وما تزيدنا إلا سلبية.

كان يحدونا الأمل ويحفزنا التفاؤل، وما يزال، أن تبادر الحكومة الجديدة برؤية وطنية مستقبلية، إلى تمهيد الطريق لتوسيع الحريات الرسمية واحترام تفاعل الأفكار والتعايش في مجتمع متعدد الأقطاب.

وأولى خطوات هذا الطريق تتمثل في فتح المجال أمام النخب المطلعة على تطورات العالم، وترك الإعلام لأهله، وإبعاد كل إمعة عن التحكم بحياة الناس التواصلية.

وقد شدد فخامة رئيس الجمهورية بحق، على أهمية احترام الحريات، والدور الفاعل لوسائل الإعلام، والميريتوقراطية، وتجنب الفئوية.

إن الساحة الإعلامية في إيران بأشد الحاجة إلى تغييرات غير سطحية وغير عابرة تساهم في النهوض بالإعلام فهمًا ومكانة على المستويين الداخلي والإقليمي؛ فما شهدناه من تغييرات حتى اللحظة عاجزة عن تحقيق هذا المبتغى. فبعض التعيينات توحي خلاف ذلك.

أيها السادة الكرام، تقبلوا مسؤولياتكم ولا تقتلوا الآمال!

لنقدر هذه الفرصة التاريخية حق قدرها، فلا نكن ممن حرموا البلد من فرصة النهوض بإعلامه عبر التحفظ، والتردد، والتمسك برؤى ضيقة وتعيينات سخيفة. وعندها سنكون، لا سمح الله، إلى جانب من شد العزم، عن علم أو بغير علم، على إفراغ الإعلام الإيراني من معناه الحقيقي، وتخليفه، وتركه في مسار الهبوط والانحطاط.

أبو الفضل فاتح

العراق

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *